كاشغار، الصين: مايكل وينز*
منذ ألف عام مضت، التقى الطرفان الشمالي والجنوبي من «الطريق الحريري» (سيلك رود) عند هذه المدينة الأشبه بالواحة، الواقعة بالقرب من أطراف صحراء تاكلاماكان. وشهدت هذه المدينة وفود تجار من دلهي وسمرقند، والذين كان ينتابهم الإرهاق من الرحلات التي يقومون بها باستخدام العربات التي تجرها الثيران عبر أكثر السلاسل الجبلية وعورة على مستوى العالم، حيث كانوا يفرغون حمولات مركباتهم من السلع ويبيعون الزعفران والعود على امتداد شوارع المدينة الضيقة. كما وفد على المدينة تجار صينيون برفقة جمال محملة بالحرير والخزف الصيني. وانضم إلى التجار سائحون يعمدون إلى استكشاف أزقة المدينة التي جرى تصميمها لتتناسب مع المركبات التي تجرها الحمير ومبانيها المصنوعة من الطين والقش، التي تعرضت للنهب والسلب على يد تيمورلنك وجنكيز خان. والآن، يبدو أن كاشغار على وشك التعرض لموجة جديدة من أعمال النهب. في هذا الصدد، أوضح المهندس المعماري والمؤرخ جورج ميتشل أنه تم بالفعل نقل 900 أسرة من مدينة كاشغار القديمة، والتي وصفها بأنها: «أفضل نموذج لمدينة إسلامية تقليدية يمكن العثور عليه بأي منطقة في وسط آسيا». يذكر أن ميتشل أصدر عام 2008 كتابا تحت عنوان: «كاشغار: المدينة الواحة على الطريق الحريري الصيني القديم». وعلى امتداد السنوات القليلة القادمة، من المقرر تدمير 85% من الأقل من مباني المدينة، حسبما أعلن المسؤولون المحليون. علاوة على ذلك، فإن الكثير من الأسر التي تقطن المدينة، والبالغ إجمالي عددها 13.000 أسرة وهم مسلمون ينتمون إلى مجموعة عرقية تركية يطلق عليها «الويغور»، سيتم ترحيلها من المدينة. من جهته، قال زو جيانرونغ، نائب عمدة كاشغار، خلال لقاء أجريناه معه عبر الهاتف، إنه من المقرر بناء مدينة قديمة أخرى بالمكان، بحيث تتألف من مزيج من مبان سكنية شاهقة وساحات عامة، إضافة إلى توسيع الأزقة بحيث تتحول إلى شوارع عريضة تحفها الأشجار وإعادة بناء نماذج من العمارة الإسلامية. وأضاف أن الهدف من وراء هذه الجهود: «الحفاظ على ثقافة الويغور». واستطرد المسؤول موضحا أن عملية الهدم باتت تشكل ضرورة ملحة نظرا لإمكانية ضرب زلزال للمدينة في أي لحظة، ما سيسفر عن انهيار المباني العتيقة التي ترجع لقرون عدة ماضية ومقتل الآلاف. وأكد زو: «تقع منطقة كاشغار بأكملها في حزام خطير على نحو خاص للزلازل. وأود سؤالكم: هل هناك حكومة لأي دولة لن تتحرك لحماية مواطنيها من أخطار الكوارث الطبيعية؟». بيد أن النقاد يموجون بالغضب حيال كارثة من نوع مختلف. على سبيل المثال، أكد وو ليلي، المدير الإداري لمركز بكين للحماية الثقافية، وهي منظمة غير حكومية تعنى بالحفاظ على التراث التاريخي، أن: «من المنظورين الثقافي والتاريخي، تتسم تلك الخطة التي يطرحونها بالغباء. أما من منظور السكان المحليين، فإنها تتسم بالقسوة». جدير بالذكر أن حركة إعادة التشييد والبناء الحضري خلال فترة الازدهار طويلة الأمد التي تشهدها الصين تسببت في تدمير الكثير من المدن القديمة، بما في ذلك معظم الأزقة والمنازل ذات الأفنية الواسعة القديمة داخل العاصمة، بكين. إلا أن كاشغار لا تعد مدينة صينية تقليدية فحسب، وإنما يعتبرها المسؤولون الأمنيون تربة خصبة لإفراز عناصر حركة صغيرة، لكن قوية من الانفصاليين الويغوريين الذين تدعي بكين أن لهم صلات بالجهاديين. وعليه، فإن إعادة تنمية هذا المركز الحضاري القديم تشوبها محاولة فرض الإذعان على سكان المدينة. من جانبهم، ساق المسؤولون الأمنيون الصينيون عددا من المبررات المتضاربة إلى حد ما لخططهم. على سبيل المثال، وصف زو كاشغار بأنها: «نموذج رئيس للتاريخ الثقافي الثري وفي الوقت ذاته تعد مدينة سياحية كبرى في الصين». ومع ذلك، فإن خطة الهدم المقترحة من شأنها تدمير عناصر الجذب السياحي الأساسية بالمدينة، التي يفد إليها ما يزيد على مليون زائر سنويا. يذكر أن الصين تساند خطة دولية لتصنيف المعالم الرئيسة الواقعة على «الطريق الحريري» كمواقع تراث إنساني طبقا لتصنيف الأمم المتحدة، ما يشكل مصدر جذب قويا للسائحين، وحافزا كبيرا للحكومات كي تحافظ على المناطق الأثرية. إلا أن كاشغار تغيب عن القائمة التي تقدمت بها الصين للمواقع المقترحة لهذا التصنيف. وقال أحد المسؤولين الأجانب، رفض كشف هويته خشية الإضرار بالعلاقات بين بلاده والصين، إن مشروع «المدينة القديمة» يحظى بمستوى استثنائي من الدعم على أعلى المستويات داخل الحكومة.
الملاحظ أن المشروع، الذي يقال إن تكلفته تبلغ 440 مليون دولار، بدأ تنفيذه فجأة هذا العام، في أعقاب إعلان الحكومة المركزية عزمها إنفاق 584 مليار دولار على الأشغال العامة للتصدي للأزمة المالية العالمية. وتأتي الخطة الجديدة لتكمل عملية تفكيك تدريجية بدأت في كاشغار القديمة منذ عدة عقود. يذكر أن الجدار المحيط بالمدينة، الذي يصل سمكه إلى 25 قدما وطوله لحوالي 35 قدما، تعرض في الجزء الأكبر منه للهدم. وفي الثمانينات، عمدت سلطات المدينة إلى ردم الخندق المائي المحيط بالمدينة لبناء طريق سريع دائري. وبعد ذلك، افتتحت شارعا رئيسا يمر بقلب المدينة القديمة. ورغم ذلك، لم تزل المدينة القديمة تحمل الكثير من ملامحها القديمة، فمن على مآذن المساجد، لا تزال أصوات المؤذنين تعلو داخل الأزقة الضيقة داعية إلى الصلاة، والملاحظ أنه لا يجري استخدام مكبرات صوت هنا. ولا يزال مئات الحرفيين يضربون بمطارقهم الأواني النحاسية وينحتون الخشب ويبيعون في الشوارع كل شيء بداية من الخبز الطازج مرورا بالضفادع المجففة وصولا إلى أغطية الرأس التي يرتديها المسلمون أثناء الصلاة. ولم يزل عشرات الآلاف من الويغور يعيشون بالمدينة، كثيرون منهم في منازل متداعية بالإيجار، وآخرون في منازل مؤلفة من طابقين ومفتوحة على أفنية مزروعة بالورود. من ناحيتها، أكدت سلطات المدينة أن السكان الويغور جرت استشارتهم في جميع مراحل التخطيط. في المقابل، يؤكد غالبية المقيمين بالمدينة أنه جرى استدعاؤهم إلى اجتماعات جرى خلالها إعلان جداول زمنية للإجلاء وتعويضات مالية.
ورغم أن مسؤولي المدينة عرضوا على السكان المشردين فرصة بناء منازل جديدة بمواقع الأخرى القديمة الخاصة بهم، فإن بعضهم يشكو من أن التعويضات المقترحة لا تكفي تكاليف إعادة البناء. وقال أحد سكان المدينة يدعى حاجي، 56 عاما، بينما قدمت لنا زوجته أكوابا من الشاي داخل منزلهما المؤلف من طابقين داخل المدينة القديمة: «بنت عائلتي هذا المنزل منذ 500 عام. وقد صنع من الطين. ورغم أنه جرى تطويره على مر السنوات، فإن الغرف لم يطرأ عليها تغيير». طبقاً للنسق الويغوري، لا يضم المنزل الكثير من الأثاث، حيث تتدلى على الجدران أنسجة مزدانة بالرسوم، بينما تغطي الأرضية سجاجيد، ويجري استخدام الأجزاء المرتفعة للنوم والجلوس. ويوجد بالغرفة الشتوية موقد يعمل بالفحم. وتم تحويل المرآب إلى محل تبيع فيه الأسرة الحلوى والحلي الصغيرة. ويضم المنزل تسع غرف بالطابق السفلي وسبع بالعلوي، وقد تحول المنزل بمرور القرون إلى قصر تبعا لمعايير كاشغار.
يذكر أن حاجي وزوجته أنفقا جميع مدخراتهما على طفلهما المريض، ولن يكفي التعويض المالي الذي ستقدمه لهما المدينة مقابل هدم منزلهما تكاليف إعادة البناء. وقد اختارا الانتقال إلى شقة بعيدة، الأمر الذي سيجبرهما على إغلاق المحل، مصدر رزقهما الوحيد.
وأكدت زوجة حاجي، التي رفضت الإفصاح عن اسمها: «المنزل ملكنا. وداخل هذا النمط من المنازل، باستطاعة الكثير من الأجيال العيش، واحدا تلو الآخر». من ناحية أخرى، اعتبر مفتشو المباني معظم المنازل القديمة غير آمنة، بما فيها جميع المباني المصنوعة من الطين والقش، وهي أقدم صور البناء. وتعهدت سلطات المدينة بهدم هذه المباني، وفي الكثير من الحالات، إعادة بنائها على نسق ويغوري مقاوم للزلازل. لكن ثلاثة من إجمالي التقسيمات السبعة القائمة بالمدينة تم اعتبارها غير ملائمة للمعمار الويغوري، وسوف تجري إعادة بنائها بمبان سكانية عامة. وسيتم محو 2.000 منزل آخر بهدف بناء ساحات عامة ومدارس. ويجري بالفعل حاليا نقل سكان المدينة الفقراء، الذين يعيشون في أصغر المنازل، إلى مبان سكنية خرسانية عامة صندوقية الشكل على أطراف كاشغار. وحتى الآن، لم يتضح ما الذي سيتبقى من كاشغار القديمة. من جهته، قال زو إن: «المباني والمناطق المهمة من المدينة القديمة تم ضمها بالفعل إلى قائمة المناطق الخاضعة لحماية خاصة على مستوى البلاد»، ولن يتم هدمها. وأضاف أن عمليات الهدم لا يشرف عليها أي علماء آثار لأن الحكومة تعرف بالفعل جميع المعلومات المتعلقة بكاشغار القديمة. في الواقع، هناك أسباب قوية تدعو مسؤولي المدينة بالفعل إلى القلق حيال الزلازل. جدير بالذكر أن زلزالا بقوة 6.8 درجات ضرب في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي منطقة تقع على بعد 100 ميل فقط من المدينة. عام 1902، تعرضت المدينة لزلزال بقوة 8 درجات، أحد أقوى الزلازل في القرن العشرين، ما تسبب في مقتل 667 شخصا. على الجانب الآخر، أعرب بعض سكان المدينة عن تفضيلهم لبناء بيئة ذات طابع عصري أكبر بمدينتهم، خاصة أن تصميم المدينة القديمة الذي يعود إلى ألف عام يهمل عناصر أساسية مثل مناطق تجميع للقمامة وتجهيزات الصرف الصحي والصنابير. من وجهة نظر زو، ستمنح عملية الهدم الويغوريين حياة أفضل وتنقذهم من كارثة محتملة. ورغم ذلك، هناك بعض الشعور بأن المدينة تشهد عملية إجلاء إجبارية للسكان، وذلك على نحو عاجل لا تبرره على نحو كامل ذريعة الخوف من الزلازل. يذكر أن المدينة تعرض أموالا إضافية على السكان الذين ينتقلون من مساكنهم مبكرا ـ ويقدر المبلغ بحوالي 30 دولارا حال الانتقال خلال 20 يوما، و15 دولارا حال إخلاء المنزل في غضون شهر. ويجري هدم المنازل بمجرد رحيل سكانها عنها. ويعرض تلفزيون كاشغار صور لويغوريين يرقصون فرحا أمام شققهم الخرسانية الجديدة.
وأعلن المذيع: «لم تشهد كاشغار قط مثل هذا الحدث العظيم الجلل». وأبدى تفاخره بالمباني الجديدة، مؤكدا أنه: «سيكون من الصعب مضاهاتها في أي مكان في العالم»، وأضاف أن المواطنين سوف: «يشهدون على نحو كامل الرعاية والدفء التي يوليها الحزب» تجاه أقلية الويغور العرقية. وأكد الإعلان التلفزيوني أيضا أن مسؤولي الحزب الشيوعي من كاشغار حتى بكين يراودهم قلق بالغ إزاء إمكانية وقوع زلزال: «لدرجة تقض مضجعهم».